الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أغننا بالعلم، وزينا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجملنا بالعافية.
من أسماء الله الحسنى الجواد:
أيها الإخوة الكرام؛ مع اسم جديد من أسماء الله الحسنى، والاسم اليوم الجواد، وقد ثبت هذا الاسم في السنة الشريفة، فقد سمّى النبي صلي الله عليه وسلم ربه على سبيل الإطلاق بالجواد، مراداً به العلميّة، ودالاً على كمال الوصفية،
(( فقد ثبت من حديث سعد بن أبي وقاص: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: إنَّ اللهَ كريمٌ يُحبُّ الكُرَماءَ، جوادٌ يُحبُّ الجَوَدَةَ، يُحبُّ معاليَ الأخلاقِ، ويكرَهُ سَفْسافَها. ))
نعمةُ الوجود وتسخيرُ الكون من لوازم اسمِ الجواد:
بادئ ذي بدء؛ الله عز وجل كل هذا الكون مِنحة منه، وأنت أيها الإنسان منحك نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد، هذا الكون سخّره لك، لأن الله سبحانه وتعالى عرض الأمانة على المخلوقات في عالم الذر، قال تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾
لأنه قَبِل حمل الأمانة، ولأنه قال: يا رب أنا لها، استحق أن تُسخّر له السماوات والأرض:
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾
ولا شك أن المُسخَّر له أفضل عند الله من المُسَخَّر، فأنت أيها الإنسان المخلوق الأول، لمّا قبِلتَ حمل الأمانة جعلك الله المخلوق الأول رتبة، فقد قال الإمام علي كرم الله وجهه: رُكِّب الملَك من عقلٍ بلا شهوة، ورُكّب الحيوان من شهوة بلا عقل، ورُكّب الإنسان من كليهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان.
إذاً وجودنا على وجه الأرض مِنحة من الله، هذه المِنحة اقتضت أن نُكلَّف أن نعبده، فعلة وجودنا على وجه الأرض أن نعبد الله، قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
علة وجودنا، أنت حينما تذهب إلى بلد لتنال الدكتوراه، بلد كبير كبير فيه حدائق، فيه وزارات، فيه ملاهٍ، فيه دور سينما، فيه متاحف، فيه أسواق، أنت بهذا البلد لك هدف واحد، علة وجودك في هذا البلد أن تنال الدكتوراه، وعلة وجود الإنسان في الأرض أن يعبد الله، الدليل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ .
كلُّ شيء يُقرِّب من الله فهو مشروعٌ:
أيها الإخوة؛ ما دامت علة وجودنا أن نعبد الله أيّ شيء في الكون يُقربك من الله مشروع، وأي شيء في الكون يُبعدك عن الله غير مشروع، هذه حقيقة كبرى، تماماً كما لو أن الطالب ذهب إلى بلد ليدرس أيّ شيء يُقرّبه من تحقيق هدفه مشروع، وأي شيء يبعده عن هدفه غير مشروع.
لذلك أيها الإخوة الكرام؛ نحن في أمسّ الحاجة إلى فهم هذا المعنى الدقيق: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الإنسان هو المخلوق الأول رتبةً، فإذا عرف الله، واستقام على أمره سبق الملائكة المقرَّبين، وإذا غفل عن الله، وتفلت من منهجه انحطّ إلى أسفل سافلين.
الناس صنفان لا ثالث لهما:
هؤلاء البشر أيها الإخوة؛ على اختلاف مللهم، ونِحلهم، وانتماءاتهم، وأعراقهم، وأنسابهم، ومذاهبهم، وطوائفهم، واتجاهاتهم، وأطيافهم، هم عند الله رَجُلان لا ثالث لهما، رجل عرف الله فانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، فسَلِم وسَعِد في الدنيا والآخرة، ورجل غفَل عن الله، وتفلت من منهجه فشقي وهلك في الدنيا والآخرة، ولن تجد نموذجاً ثالثاً، هذا تقسيم رب السماوات والأرض.
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)﴾
هذا النموذج الأول: ﴿أَعْطَى وَاتَّقَى*وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾ صدّق أنه مخلوق للجنة، فلما صدّق أنه مخلوق للجنة اتّقى أن يعصي الله، فلما اتّقى أن يعصي الله بنى حياته على العطاء، خصائص ثلاثة؛ صدّق بالحسنى، والحسنى هي الجنة، واتّقى أن يعصي الله، وبنى حياته على العطاء، هذه خصائص المؤمن، جعل الآخرة أكبر همه، وجعلها مبلغ علمه، وجعلها منتهى آماله، ومحط رحاله، أي نقلَ اهتماماته كلها إلى الآخرة، عندئذٍ اتّقى أن يعصي الله، عندئذٍ أراد أن يدفع ثمن الجنة، وثمن الجنة العمل الصالح.
الإنسان يسلَم بالاستقامة ويسعد بالعمل الصالح:
كما هو معلوم الإنسان بالاستقامة يسلم، لكن بالعمل الصالح يسعد.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾
لكن:
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)﴾
بالاستقامة يسلم، بالعمل الصالح يسعد، لذلك أيها الإخوة؛ إن الله جلّ جلاله جواد، منح الخلائق الوجود، أنت موجود، وجودك مِنحة من الله، لكن هذا الذي لا يفقه حقيقة وجوده إنسان شارد، لماذا أوجدك؟ ليسعدك.
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾
خلقهم ليسعدهم، خلقهم ليرحمهم، خلقهم ليسلمهم، خلقهم ليجعل لهم جنتين، جنة في الدنيا وجنة في الآخرة.
إن الله جلّ جلاله جواد، يحب الجود، ولا أزال أُركز على هذه النقطة، يمكن أن تعبد الله بأن تتخلق بكمال مشتق من كماله، هو جواد، يحب الجواد، يحب العطاء، فالمؤمن يبني حياته على العطاء.
أيها الإخوة؛ دققوا تقسيمات الأرض لا تنتهي، دول الشمال، دول الجنوب، العرق الآري، العرق الملوّن، الأغنياء، الفقراء، الأقوياء، الضعفاء، الأصحاء، المرضى، دول الشرق، دول الغرب، تقسيمات البشر لا تنتهي، أما البطولة أن تعتمد تقسيمات خالق البشر، خالق البشر عنده مؤمن أو كافر، مستقيم أو منحرف، يعطي أو يأخذ، يُنصف أو يجحد، يَصدق أو يكذب، فإن الله جواد يحب الجواد، فإذا أردت أن تتقرب إلى الله تخلّق بالكمال الإلهي، اجعل حياتك عطاءً، لذلك الأنبياء جاؤوا إلى الدنيا أعطوا ولم يأخذوا، الأقوياء أخذوا ولم يعطوا.
دقق بحياة المؤمن، يحب أن يدعو إلى الله، يحب أن ينفق ماله، وقته، خبرته، جهده، بنى حياته على العطاء، بالتعبير المعاصر استراتيجيته العطاء، يعطي وهو في قمة السعادة، الأقوياء أخذوا ولم يعطوا، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، الأقوياء عاش الناس لهم، الأنبياء عاشوا للناس، الأنبياء ملَكوا القلوب، الأقوياء ملكوا الرقاب، ودقق والناس جميعاً من دون استثناء تَبَع لقوي أو نبي، اسأل نفسك هذا السؤال: أنت لمن؟ تابع للأقوياء؟ معك صلاحية؟ تحتل منصباً؟ قوي؟ غني؟ مُتبحر بالعلم؟ هذا التبحر يُدِرّ عليك دخلاً كبيراً؟ أنت إذاً تابع للأقوياء.
أنت مؤمن؟ تعطي من وقتك، من خبرتك، من جهدك، من معلوماتك، فإذا أسعدك أن تعطي فأنت من أهل الآخرة، وإذا أسعدك أن تأخذ فأنت من أهل الدنيا، ببساطة بالغة يمكن أن تُقيّم نفسك ما إذا كنت من أهل الدنيا أو من أهل الآخرة، أي ما الذي يُسعِدك أن تعطي أم أن تأخذ؟ ((إنَّ اللهَ كريمٌ يُحبُّ الكُرَماءَ، جوادٌ يُحبُّ الجَوَدَةَ )) .
الله تعالى يُحبّ معالي الأخلاق ويكره سفاسفها:
دقق الآن،
((يُحبُّ معاليَ الأخلاقِ، ويكرَهُ سَفْسافَها)) (( عَنِ الْمُغِيرَة بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا، قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ. ))
هناك إنسان همومه عالية جداً، هناك إنسان تافه.
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)﴾
ليس له وزن.
﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)﴾
لا يبالي الله بأي أودية الدنيا هلك الإنسان الشارد، غارق في ملذاته، غارق في سفاسف الأمور، في أشياء لا تُقدم ولا تُؤخر، ما هو الضابط في هذا؟ أنت حينما تُقبِل على شيء هذا الشيء هل يصل معك إلى القبر أم يبقى عند شفير القبر؟ هذا الضابط، إنسان يعتني ببيته عناية بالغة، لم يرتكب معصية، لكن هذه العناية البالغة التي امتصت كل وقته هل تدخل معه في القبر؟ لا، لكن العمل الصالح يدخل معه في القبر.
وجوب أن تكون رؤية الإنسان صحيحة موافقة للشرع:
أيها الإخوة الكرام؛ القضية قضية مهمة جداً، أنا ما الذي ينفعني في المستقبل؟ عمل صالح، طاعة لله، تلاوة للقرآن، دعوة إلى الله، تربية للولد، إعطاء من المال، ما الذي يدخل معي في القبر؟ هذه الأعمال، لذلك الإنسان حينما يأتيه ملك الموت يقول:
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾
البطولة ألا تندم، متى لا تندم؟ إذا عملت لأُخراك، ومتى تندم؟ إذا عملت لدنياك، لأن الدنيا تضر وتغُر وتمر.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)﴾
أي الدنيا تغر، كيف؟ تظنها بحجم أكبر من حجمها، هذا الحجم الكبير في مقتبل الحياة، بعد حين تراها بحجم أقلّ من حجمها، لكنك عند مغادرة الدنيا لا ترى الدنيا شيئاً، لا ترى إلا الله، فالبطولة أن تصِحّ رؤيتك وأنت في مقتبل حياتك، لذلك يأتي عملك صحيحاً، إذاً:
((يحب الله معالي الأخلاق ويكره سفاسفها)) دقق:
(( أَنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ. ))
من يفهم حكمة المصيبة ينضبط:
لذلك:
((إن الله جل جلاله جواد يحب الجودة، يحب معالي الأخلاق، ويكره سفاسفها)) ورد في الحديث القدسي الصحيح:
(( إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويُشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليّ صاعد، أتحبب إليهم بنعمي، وأنا الغني عنهم، ويتبغّضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي، من أقبل عليّ منهم تلقيته من بعيد، ومن أعرض منهم عني ناديته من قريب، أهل ذكري أهل مودتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل معصيتي لا أُقَنِّطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد، والسيئة بمثلها وأعفو، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها. ))
[ ضعفه السيوطي في الجامع الصغير، وكذا المناوي في فيض القدير ]
وفي الحديث القدسي
(( عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا. ))
ذلك لأن عطائي كلام وأخذي كلام، منهج، إنْ جاءت الأمور كما تُحب يجب أن تحمد الله عز وجل، إن جاءت على غير ما تحب لا تلومنّ إلا نفسك.
﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)﴾
الإنسان حينما يفقه حكمة المصيبة ينضبط، حينما تفهم على الله حكمة المصيبة تكون قد قطعت أربعة أخماس الطريق إلى الله عز وجل.
إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ:
أيها الإخوة؛
(( روي الترمذي في سننه من حديث سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ. ))
أي إذا قدمت صدقة لتكن من أطيب مالك، إذا قدمت هدية لتكن من أطيب الهدايا، لأن: ((اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ)) هؤلاء الذين ينفقون شيئاً يكرهونه، ينفقون طعاماً تعافه أنفسهم، هؤلاء لا يتقربون إلى الله بهذا الشيء: ((إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّب)) .
الإسلام مجموعة قيم أخلاقية:
((نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ)) النظافة من الإيمان، هناك نظافة جسمية، هناك نظافة نفسية، هناك إنسان صادق، أمين، أروع ما قاله سيدنا جعفر رضي الله عنه حينما سأله النجاشي عن الإسلام، وعن نبي الإسلام،
(( عن أم سلمة رضي الله عنها: قال: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ. ))
[ اسناده صحيح أخرجه أحمد ]
هذه الجاهلية، والجاهلية الأولى هذه، قال تعالى:
﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)﴾
يُفهم من هذه الآية أن هناك جاهلية ثانية هي أمرّ وأدهى، يوم يذوب قلب المؤمن في جوفه مما يرى ولا يستطيع أن يُغير، يوم يؤتمن الخائن، ويُخوَّن الأمين، يُصدَّق الكاذب، ويُكذَّب الصادق، يُضام الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، موت كقعاص الغنم كما ترون، لا يدري القاتل لمَ يَقتُل ولا المقتول فيمَ قُتِل؟ يوم يكون المطر قيظاً، والولد غيظاً، ويفيض اللئام فيضاً، ويغيض الكرام غيضاً، هذه الجاهلية الثانية، الجاهلية الأولى التي قال عنها سيدنا جعفر:
((نَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، ويَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ)) دقق، أي إنْ حدثك فهو صادق، وإن عاملك فهو أمين، وإن استُثيرت شهوته فهو عفيف، هذه صفات المؤمن، هذه أركان الاستقامة، إن حدثك فهو صادق، إن عاملك فهو أمين، إن استُثيرت شهوته فهو عفيف، وتاج ذلك:
((نَعْرِفُ نَسَبَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ)) هذا هو الإسلام، الإسلام مجموعة قيم أخلاقية، أما حينما أقول:
(( عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ». ))
الخمس شيء والإسلام شيء آخر، ((بُنِيَ الإِسْلامُ)) الإسلام مجموعة قيم أخلاقية، الإيمان هو الخُلق فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الإيمان.
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾
لا تُقبل الشعائر إلا بصحة المعاملات:
ما لم تكن أخلاقك صارخة، ما لم يكن التواضع، الحب، الرحمة، الصدق، الأمانة، الكرم، العطاء، العفو، الحلم لا ترقى إلى مستوى المؤمنين، أما الصلاة والصيام والحج والزكاة هذه عبادات شعائرية، لكن الأصل العبادة التعاملية، بل إن العبادة الشعائرية لا تُقبل ولا تصح إلا إذا صحت العبادة التعاملية، لذلك قال بعض العلماء: ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد الإسلام.
(( عن عبد الله بن عمر: أحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفعُهُمْ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ تُدخِلُهُ على مُسلِمٍ، أو تَكشِفُ عنهُ كُربةً، أو تَقضِيَ عنهُ دَيْنًا، أو تَطرُدَ عنهُ جُوعًا، ولَأَنْ أمْشِيَ مع أخِي المسلمِ في حاجةٍ أحَبُّ إليَّ من أنْ أعتكِفَ في المسجدِ شهْرًا، ومَنْ كفَّ غضَبَهُ، سَتَرَ اللهُ عوْرَتَهُ، ومَنْ كظَمَ غيْظًا، ولوْ شاءَ أنْ يُمضِيَهُ أمْضاهُ، مَلأَ اللهُ قلْبَهُ رضِىَ يومَ القيامةِ، ومَنْ مَشَى مع أخيهِ المسلمِ في حاجَتِه حتى يُثْبِتَها لهُ، أثْبتَ اللهُ تعالَى قدَمِه يومَ تَزِلُّ الأقْدامُ، وإنَّ سُوءَ الخُلُقِ لَيُفسِدُ العملَ، كَما يُفسِدُ الخَلُّ العَسَلَ. ))
الصلاة عبادة شعائرية،
(( عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟ جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا. ))
انتهت الصلاة.
الصوم:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ. ))
الحج: من حجّ بمال حرام، ووضع رجله في الركاب وقال: لبيك اللهم لبيك، يُنادى: أن لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك.
الزكاة:
﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)﴾
العبادات الشعائرية لا تصح ولا تُقبل إلا إذا صحت العبادات التعاملية، فلذلك:
(( إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ، فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ -ساحات دوركم-وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ. ))
[ أي ملخص الملخص: يجب أن تتخلّق بكمال مشتق من كمال الله. ]
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾
لا تقِس نفسك بالصلاة، قِس نفسك بالكمال، هل أنت جواد؟ هل أنت صادق؟ هل أنت أمين؟ هل أنت متواضع؟ هل أنت محسن؟ هل أنت مُنصف؟ هذا الذي يرفعك عند الله، إذا ضُمَّ إلى عبادتك الشعائرية نجحت، وأفلحت، وفزت.
الملف مدقق